روايات شيقهرواية المستحيل

نوفيلا المستحيل للكاتبة شاهندة الفصل الثالث

عندما حان الفراق أحرقني الغياب، لا أصدق أنك فارقت الحياة وتركتني.
وعدتني أن تمسك يداي حتى فنائي، فتخليت عني وجعلتني وحيدة في هذا الكون البائس.
لكنك نسيت قبل أن تذهب أن تعلمني كيف السبيل إلى النسيان؟
كيف أكفكف مدامعي التي لا تنضب وكيف أطبطب على قلب مزقه الألم وأدمته الحسرة؟
كيف أبعد غصة حلقي فأستطيع التنفس دون ألم؟
رصاصات الذنب ترديني في بعادك.
تجبرني أن أتساءل. ماذا لو،؟

ماذا لو تركتك حدي ولم أرسلك بعيدا. هل كان المصير سيغدو مشرقا؟
أم أنه القدر أراد سلبي إياك على كل حال؟
سأعيش يقتلني الفراق حتى يحضرني الردي أو قد يصيبني الجنون فأصير للهذيان أسيرة. في كلتا الحالتين أشعر بالموت يحلق فوق رأسي وياللعجب أدرك أني حقا لا أبالي.
كانت تبكي بصوت متهدج أليم النبرات، تقول من بين شهقاتها: محمد مات وسابني لوحدي ياهند؟ سابني لوحدي.

قالت هند بألم: وحدي الله يا صفية. انت مؤمنة بربنا وعارفة ان الموت قضاء ربنا ولازم نرضا بقضائه.
انا السبب، كان عايز يوصلني وأنا اللي مرضيتش. قلتله خليك مع الراجل اللي بيدهن، لو كان جه معايا كان عاش. صدقيني ياهند أنا السبب. أنا المجرمة اللي سلمته بإيدي للموت.
ياصفية ده قدره. ساعته اللي ربنا كتبهاله، لو كان معاكي كان برضه هيموت. لكل أجل كتاب.

هزت صفية رأسها نفيا تقول من وسط دموعها: لأ انا السبب. صدقيني أنا السبب. أنا اللي قلتله خليك. أنا اللي قلتله خليك. أنا المجرمة صدقوني. أنا اللي قتلت محمد. انا اللي قتلته.
ظلت تردد هذه الكلمات بصوت مدوي، ليدلف كل من خالتها وزوجها إلى الحجرة فقالت هند بانفعال: انده الدكتور ياعادل. بسرعة.

أسرع عادل يلبى طلبها بينما حاول كل من هند وخالتها تهدئة صفية حتى وصول الطبيب ليمنحها حقنة مهدئة تجعلها تذهب إلى سبات يريحها من هذا العذاب الذي تعانيه.

كانا يقفان خارج الحجرة ينتظران خروج الطبيب ليطمأنهم على حالة صفية بينما بقيت هند بالداخل ترفض الخروج معهم وتصر على المكوث معها، خرج الطبيب بعد لحظات يخبرهم أنها من الأفضل لو تتابع مع طبيب نفسي ثم انصرف فجلست الأم تبكي بحرقة قائلة: ياحبيبتي ياضنايا، مكتوبلك الهم ده كله فين؟
ربت عادل علي كتفها قائلا: وحدي الله ياست نبيلة، ده قدر ومكتوب.

لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله. اللهم اني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه.
ظهرت هند على أعتاب الحجرة شاحبة الوجه فاقترب منها عادل يقطب حاجبيه قلقا وهو يقول: مالك ياهند وشك أصفر كدة ليه؟ صفية كويسة؟
انتبهت الخالة فأسرعت إلى هند تقول بقلق: صفية مالها ياهند؟ ردي علينا يابنتي.
قالت هند بصوت واهن: صفية كويسة متقلقوش، من ساعة ماخدت الحقنة وهي نايمة. أنا بس…

صمتت فاستحثها عادل قائلا: انت إيه؟ مالك ياهند؟
مش عارفة ياعادل، دايخة وحاسة روحي بتنسحب مني وألم رهيب في دماغي و جسمي…
لم تكمل كلماتها والدنيا تسود أمام عينيها، لتسقط مغشيا عليها فالتقطها عادل بين ذراعيه بينما خالتها تصرخ بلوعة.

مغمضة العينان تسمع همهمات جوارها، تحاول أن تفتح عيناها ولكنها تجد صعوبة في ذلك، نيران في عمودها الفقري تحرقها، ترغب في أن تنقلب على جانبها فلا تستطيع أيضا، وجنتاها رطبتين تشعر بأنامل لا تخصها تمسح شيئا من على وجهها، الأصوات لم تعد همهمات بل صارت أكثر وضوحا، انها خالتها تقول بألم: ياعيني عليكم يابناتي، عين وصابتكم. دي بتبكي ياحبة عيني وهي نايمة.

صوت زوجها يقول: خلاص ياست نبيلة، ملوش لزوم البكا دلوقتي. شوية أنيميا وضغط واطي زي ماقال الدكتور، واهي خدت المحلول وهتبقى زي الفل.
والله الدكتور ده مابيفهم حاجة. تحاليل ايه اللي عملهالها دي؟ هو تحليل واحد اللي كان مفروض تعمله.
تحليل ايه ده بقى إن شاء الله؟
تحليل حمل.
همس قائلا: حمل ايه بس؟ هو احنا لحقنا.
بتقول حاجة ياعادل؟
ها. لأ مبقولش. استنى كدة باينها بتفوق.

نظرت الخالة إلى وجه هند لتجدها بالفعل تحاول فتح عيونها حتى استطاعت فزفرت الخالة بارتياح قائلة: ياما انت كريم يارب. حمد الله على سلامتك ياهند.
قالت هند بوهن: الله يسلمك ياخالتي.
قال عادل بحنان: عاملة ايه دلوقتي ياحبيبتي؟ حاسة بحاجة؟ أندهلك الدكتور؟
ملوش لزوم. هو بس ألم في ضهري وهيروح لحاله، الظاهر من الوقفة. صحيح صفية أخبارها إيه؟

قالت الخالة بمرارة: من شوية فاقت وقعدت تعيط، ادوها حقنة مهدئة ونايمة ياقلبي، مش عارفة آخرة المهدئات دي إيه؟ كل أما تفوق يدوهالها تاني.
بسبب حالة الانهيار اللي هي فيها. لازم مهدئ والا هتجنن. ربنا يصبرها ياخالتي، اللي حصل كتير قوي عليها.

والله ماأنا عارفة هسيبها كدة ازاي وأروح أحضر دفنة محمد، البوليس بلغنا نستلمه من المشرحة بعد ماخلصوا التحقيق، منه لله صاحب العمارة بناها باسمنت مغشوش وآدي النتيجة. موت وخراب ديار.
قالت هند بحزن: منه لله. روحي انت وأنا هفضل مع صفية. هي اصلا هتفضل نايمة مدة طويلة ولو صحيت هيدوها مهدئ تاني. محمد الله يرحمه ملوش حد غيرك، يتيم وانت كنت أمه وأبوه. ومحدش هيخرجه لقبره غيرك.

تساقطت دموع نبيلة قائلة بحسرة: قبره. ازاي بس؟ ياقلبي يامحمد. ربنا يعلم انه كان الابن اللي مخلفتوش. ربنا يرحمه ويصبر قلوبنا على فراقه ويقوي بنتي على خسارته ياااارب.
كفكفت الخالة دموعها وهي تغادر بينما تقول هند برجاء: روح معاها ياعادل. متسيبهاش لوحدها. مش هتعرف تتعامل ومش بعيد تنهار.
وانت هسيبك لوحدك؟ مش هينفع.

انا في المستشفى متقلقش عليا، هياخدوا بالهم مني انا وصفية لحد ماترجعوا. قوم روح معاها ومتضيعش وقت.
هز رأسه بهدوء ثم نهض يقبل جبينها قبل أن يغادر، لتتمتم هند بحزن: ربنا يرحمك يامحمد ويصبر قلب صفية ويقويها يااااارب.
نظرت هند إلى ابنة خالتها بحزن قائلة: ياصفية مينفعش كدة ياحبيبتي لازم تاكلي لقمة.
ازاحت صفية الصينية جانبا قائلة: مليش نفس ياهند.

قربت هند الصينية منها مجددا قائلة: حتى لو ملكيش نفس لازم تاكلي عشان تعيشي ياقلبي.
وأعيش ليه؟ مااللي كنت عايشة عشانه راح.
لا حول ولا قوة الا بالله. الله يرحمه. طيب ومامتك وأنا. عايزة تسيبينا بس لمين؟
انت عندك عادل ربنا يحفظهولك وماما عندها انت، انا مجرد حمل ملوش لازمة.
لأ ليك لازمة ونص وبطلي الكلام ده وإلا هزعل منك بجد، انت الأخت اللي مليش غيرها، السند والضهر. روحي فيكي ياهبلة ولو جرالك حاجة أموت.

بعيد الشر عنك.
شفتي اتخضيتي ازاي؟ يبقى ينفع أسمعك بتقولي الكلام ده؟ حسيتي باللي أنا حاسة بيه؟
خلاص ياهند فهمت.
يبقى تاكلي الأكل ده كله عشان تقدري تقفي وتسنديني زي ماطول عمرك سنداني ياقمر.
هاكله بس قومي دلوقت وروحي بيتك انت اتأخرتي وعادل قرب يروح البيت.
مش هقوم قبل ماآخد الصينية دي فاضية، لو عايزانى أروح بسرعة خلصيها بسرعة.

هزت رأسها بوهن ثم أمسكت الصينية تتناول بضع لقيمات بينما تطالعها هند بحنان، تدعوا الله أن يحفظ صفية ويخرجها من هذا الدرب المظلم الذي يجذبها إليه، تقسم انها لن تتركها حتى تساعدها على ذلك. مهما حدث.

أدارت هند المفتاح في الباب ودلفت فإذا بصوت حماتها الساخر تقول: الهانم لسة بتحن علينا ومشرفة دلوقت. وجاية على نفسك ليه؟ ماكنت تباتي عند خالتك بالمرة.
أغلقت هند الباب وهي تستغفر في نفسها قبل أن تقول: حضرتك أنا مكنتش بلعب. ولا خارجة السوق. انت عارفة الظروف اللي صفية بتمر بيها وطبيعي تلاقيني جنبها لحد ربنا مايقومها بالسلامة.

إيه الدلع الماسخ ده؟ خطيبها ميت بقاله أكتر من عشر أيام وخرجت من المستشفى من أسبوع، لازمته ايه تخرجي كل يوم من صباحية ربنا وتقعدي معاها للعشا؟ هو ده مش بيتك برضه وجوزك اللي شقيان طول النهار مش واجب يرجع يلاقي مراته محضراله الأكل وبتستقبله حلو بدل مابيرجع يلاقيكي تعبانة ويادوب بتحضريله اللقمة بالعافية.

شعرت هند بالدماء تغلى في عروقها ولكنها كما اعتادت دوما حين يجمعها نقاش مع هذه السيدة أن تستغفر في نفسها قبل أن ترد عليها، فأمثال السيدة نجية يحتاج إلى البرودة في التعامل حتى لا تخرجها عن طورها فيحدث مالا يحمد عقباه. لذا استغفرت قبل أن تقول: أنا قولت لحضرتك انها ظروف، وتعبي مش عشان بروح اقعد مع بنت خالتي، لأ أنا فعلا تعبانة وبكرة هروح للدكتور عشان أعرف مالي؟

كل شوية تعبانة وودي ياعادل للدكتور وهات من عند الدكتور واصرف قد كدة. آه ماهو البنك اللي فتحهولك بابي وقالك اغرفي منه ياهند وعبي.
إلى هنا وكفى. لن تسمح لها بالتطاول على أبيها رحمه الله لتقول هند بغضب: لحد هنا ومسمحلكيش، من فضلك إلزمي حدودك واعرفي بتقولي إيه.

دلف عادل في هذه اللحظة عاقدا حاجبيه لتسرع السيدة نجية في وضع قناع الإنكسار على وجهها تصحبه بعض الدموع المزيفة وهي تقول: شفت ياعادل. سمعت ياابني بنفسك مراتك بتكلمي ازاي وبتقولي إيه؟
أنا مش مصدق وداني.
ياعادل هي اللي بدأت…
قاطعها قائلا بغضب: حتى لو هي اللي بدأت زي مابتقولي. دي ست كبيرة مينفعش تقلي منها كدة، اعمليلي حتى حساب واستني لما آجي واحكيلي مش تزعقيلها بالشكل ده؟

رأيتها سابقا ولم تفعل شيئا وحتى ان انتظرتك كما طلبت مني وأخبرتك ستظل عاجزا عن القيام بأي شيء يحفظ كرامتي.
ظهرت الشماتة في عيون نجية بينما طالعته هند بصدمة تقول: أعملك حساب؟ وهو أنا ضيعني غير اني عاملالك حساب ودايما سامعة وساكتة عشان عارفة غلاوتها عندك. دلوقت لما فاض بيا من تعبي واتكلمت ولأول مرة أرد بقيت مش عاملالك حساب. هي دي آخرتها ياعادل؟
ظلت ملامحه جامدة وهو يقول: اعتذريلها ياهند.

قالت باستنكار: أعتذرلها؟
لو فعلا بتعمليلي حساب وبتخافي على زعلي. اعتذريلها.
وزعلي انا مش مهم عندك؟ وقهرتي وانا بعتذر ليها وهي المفروض اللي تعتذرلي عادية بالنسبة لك مش كدة؟ ايه رأيك بقى اني مش هعتذر.
عقد حاجبيه بقوة قائلا: يبقى هعاقبك بطريقتي ياهند وهحرمك من دخول بيت خالتك لحد ماتعتذري.
اتسعت عيناها بصدمة تقول: انت بتقول ايه؟ انت ايه اللي جرالك؟

قالت نجية بحزن مصطنع: شافك على حقيقتك وعرف بتعملي ايه في أمه.
من فضلك ياماما.
خلاص ياابني سكت أهو.
طالعتهما بقلب ينكسر إلى فتات، تشعر بروحها تتمزق بقوة. تدرك أنها لأول مرة تدرك كسرة القلب التي لن يجبرها أي شيء كما كانت تسمع عنها دوما، انها كسرة تردي الكيان لتشعر بأنه يفنى ببطئ. بألم. وكأن هناك نيران تذيبه رويدا رويدا، ليتلظي في الجحيم ولا يجد ما يطفئه.

اغروقت عيناها بالدموع قبل أن تهرب من المكان تتجه لحجرتها، كاد عادل أن يتبعها ولكن والدته أمسكت بيده تمنعه قائلة: لأ إجمد كدة وميبقاش قلبك رهيف. سيبها خليها تتربى. أهو دلعك فيها ده اللي مركبها عليك وعليا، اوعي تطاطي بعد مارفعت راسي وأكدتلي اني عرفت أربي ياضنايا.

أغمض عيناه بقوة يقاوم ضعفا تجاهها كرهه في هذه اللحظة فقد يغفر لها كل شيء إلا المساس بأمه. فتح عيناه وقد قسيتا قبل أن يزيح يده من يد أمه ويتجه للخارج يفتح الباب ويطرقه خلفه بغضب، تناديه والدته فلا يجيبها وماان أغلق الباب حتى ابتسمت نجية تقول بانتصار: أول مسمار أدقه في نعش حبكم الكبير ياست هند، وأخيرا عرفت أخليه يزعل منك. انت اللي جبتيه لنفسك. كنت دايما أسم بدنك وتسكتي لدرجة اني قلت عليك باردة ومبتحسيش، ايه اللي جد وفرعنك. أهي جت على دماغك، وقريب قوي هقدر أفرق بينكم ووقتها هجوزه بنت عمه اللي محيلتوش غيرها وساعتها هيرجعله أرضه وهيبقي فوقها أرض عمه كمان. الأرض كلها هتبقى ملك ابني حبيبي، وملكي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى